صوت الراعي وصدى بعبدا: ما في حدا

من يعرف البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي يدرك إنّه ما كان ليقول ما قاله في عظة الأحد 5 تمّوز الحالي في كنيسة الصرح البطريركي في الديمان، لو لم يكن قد طفح الكيل عنده من عدم مبادرة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون للإقدام على خطوات جدّية، يمكن أن تنقذ لبنان الكيان وليس الوضع المالي والإقتصادي المنهار فحسب. ذلك أن الراعي كثيراً ما يتمهّل قبل أن يحدث الصدمة المطلوبة ويعتمد الحذر قبل المواجهة.

من يعرف الراعي يدرك أيضاً أنّه يعرف الرئيس ميشال عون جيّداً ويعرف طريقة تعاطيه مع الأزمات وكيف يتمسّك برأيه حتى وهو يسير على حافة الهاوية، وحتى وهو يقع في هذه الهاوية ويوقع معه البلاد والعباد. يعرف الراعي الرئيس عون جيّداً منذ كان قائداً للجيش ورئيساً للحكومة العسكرية، وقد رافق البطريرك مار نصرالله بطرس صفير إلى بعبدا للقاء الجنرال في مرحلة حرب التحرير، والبحث في اتفاق الطائف ثم في حرب الإلغاء وما قبل عملية 13 تشرين. يومها لم يستمع عون إلى كل نصائح سيّد بكركي الذي كان ينقل إليه أيضاً رغبات الكرسي الرسولي في الفاتيكان للخروج من الحرب والدخول في الحلّ.

ويعرف الراعي جيّداً ما حصل بين صفير وعون ذلك أنه عايش في بكركي تفاصيل كل هذه العلاقة المتأزمة، وكان في الصرح الكبير عندما هاجمته الحشود العونية واعتدت على البطريرك صفير ليل الخامس من تشرين الثاني 1989. تلك الليلة لم يستطع المطران الراعي احتمال مشهد إهانة البطريرك والتعدّي على الصرح فذهب إلى الكنيسة الصغيرة يصلّي حتى تنقشع الغيمة السوداء، وفي ساعات الفجر الأولى كان يرافق البطريرك صفير إلى الديمان. كانت تلك المرّة الأولى التي يُرغم فيها بطريرك على مغادرة مقره الشتوي إلى الصيفي في الشتاء حزيناً، كئيباً ولكن غافراً لمن كانوا يدرون ماذا يفعلون.

سكوت الرئيس وكلام الراعي

لم يناشد الراعي “فخامة رئيس الجمهورية العمل على فكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني الحرّ” إلا بعدما أيقن أن الشرعية والقرار الحر في خطر. من يعرف البطريرك الراعي يعرف أنه ما كان مضطراً إلى الإعلان عن موقفه في عظته الكنسية، لو لم يكن قد قطع الأمل من أن يكون عون قد استوعب ما كان يقوله له في لقاءاته معه. أكثر من مرّة ذهب البطريرك الراعي إلى القصر الجمهوري وأكثر من مرّة تحدّث مع الرئيس عون وأكثر من مرّة استقبله في بكركي، ولكنه دائماً كان ينتظر منه أن يفعل شيئاً، ودائماً لم يفعل، وكأنّه مستسلم لقدر مجهول ولخيار معلوم. الفارق أن الراعي لم يكن وارداً عنده أن يستسلم أيضاً لذلك القدر ولذاك الخيار. عندما ارتفعت بعض الأصوات تطالب الرئيس عون بالإستقالة ذهب إلى بعبدا ودعم استمراره في الرئاسة. إذا كان بطريرك الموارنة قد رفض المسّ بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة الماروني فمن الطبيعي أن يرفض المسّ بموقع “حاكم” لبنان ميشال عون الماروني. ولكنّ البطريرك لا يمكن أن يستمرّ في السكوت على سكوت الرئيس.

يعزّ على الراعي أن يتم التعاطي مع “ندائه” كما تمّ التعاطي مع نداء البطريرك صفير في 20 أيلول 2000 وأن يتجاهله الرئيس عون والمحيطون به وأن يتهرّبوا من تحمّل المسؤولية، باعتبارهم أنّهم غير معنيين بهذا النداء وبأنّ الشرعية غير محاصرة وبأنّ القرار الوطني الحرّ متوفّر في القصر الجمهوري، وبأنّ الراعي هو الذي أخطأ في العنوان وعليه أن يصحّح سياسته لا أن يعيد تجربة سلفه صفير. هذا المنطق فتح أبواب الإنتقادات ضد الراعي.

رهان لم يتحقّق

كان الراعي سعيداً جدّاً عندما تمّ التفاهم بين “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر” وعندما حصل تفاهم معراب بين الدكتور سمير جعجع وبين العماد ميشال عون، وكان سعيداً أكثر عندما تمّ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية.

منذ وصل الراعي إلى سدة البطريركية في 15 آذار 2011 كان وضع في رأس اهتماماته إعادة توحيد المسيحيين وتجاوز انقساماتهم. وعلى هذا الأساس تمكّن من جمع الرئيس أمين الجميل والعماد عون والدكتور جعجع والوزير سليمان فرنجية، وحاول معهم تجاوز إمكانية حصول الفراغ في رئاسة الجمهورية والحؤول على الأقلّ دون أن يختار الآخرون رئيس الجمهورية الماروني، على قاعدة ما كان يحصل خلال عهد الوصاية. وكان يريد أيضاً أن يكون هذا الرئيس متمتعاً بالحيثية التمثيلية المسيحية وقوياً في بيئته ومتحرراً من أيّ وصاية. وعلى هذا الأساس كان البطريرك مغتبطاً ومبتهجاً بخيار انتخاب عون. وهو لم يتوقّف عند هذا الحدّ فكما مرّت مصالحة “القوّات” و”التيار” في بكركي كان لقاء المصالحة والمسامحة والمصافحة والغفران بين الدكتور جعجع والوزير فرنجية في بكركي أيضاً. ولكن كلّ ذلك لم يُترجم على الأرض قوةً في الحضور المسيحي الفاعل داخل الدولة بسبب السياسات الخاصة التي أولاها رئيس الجمهورية لرئيس “التيار”، الذي اختاره خليفة له الوزير جبران باسيل وبسبب الإرتماء في أحضان سياسة “حزب الله”. وبدل أن يبني العهد سياسته على أساس التفاهم المسيحي – المسيحي لإنقاذ الكيان اللبناني والشرعية والجمهورية، ذهب في الإتجاه المعاكس وارتدّ على تفاهم معراب وتبنّى استراتيجية الدفاع عن “حزب الله”، حتى في الموضوع المتصل بسلاح الجيش اللبناني وقدرته على حماية الشرعية والجمهورية. كلّ هذه الهواجس كانت تطرح في لقاءات البطريرك والرئيس ولكن دائماً من دون نتيجة كأن البطريرك كان يحكي حتى تسمع الجدران لا الآذان.

الراعي بعد ثورة 17 تشرين

بعد انتفاضة 17 تشرين 2019 كنتيجة كارثية على ما آل إليه العهد بعد انقضاء ثلاثة أعوام من عمره، وبعد تواري صورته وراء صورة الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله الذي ظهر وكأنه هو الذي يقرر مصير لبنان، لم يعد من الممكن أن يستمرّ صمت البطريرك. من مقرّه في بكركي كان يرى كيف تتمّ عملية نقل لبنان في ذكرى مئويته الأولى من مكان إلى آخر، من لبنان المنفتح على العالم إلى لبنان آخر منعزل ضعيف فاقد القدرة على الحياة وفاقد الهوية والهدف من وجوده، الذي لم يكن إلا بإرادة بكركي ومسيرتها التاريخية والبطريرك الياس الحويك. لم يكن بإمكان الراعي أن يشهد عملية القضاء على لبنان وأن يبقى ساكتاً لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس. بدل أن تكون المئوية الأولى لإعلان لبنان الكبير مناسبة لإعادة الإعتبار إلى هذا الكيان، ثبت للبطريرك وللمؤمنين بهذا الكيان أن ما يحصل يصب في محاولة القضاء على هذا الكيان وعلى ما تبقى منه اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، ومن علاقات دولية لأنّ هذا الكيان لم يولد ليكون في النهاية تابعاً لإيران، أو أرضاً يتحرّك عليها “حزب الله” ويضعها في خدمة أهدافه ومشاريعه في المنطقة.

ليس في نية الراعي أن يخلق “لقاء قرنة شهوان” جديداً كي يحمل أهداف هذه الإنتفاضة البطريركية، ولكنّه بكلامه حدّد السقف الذي يمكن أن يشكّل نقطة انطلاق ومتابعة من أجل تحرير الشرعية والجمهورية وإنقاذ لبنان الكيان، وتجديد هويّته لمئة عام جديد لا أن يكون ما يحصل اليوم مجرّد عمليّة دفن لهذا اللبنان وللشرعية.

في عظته وقبل أن يتطرّق إلى السياسة، تحدّث البطريرك الراعي أولاً في رسالة المسيح الذي أرسله الآب ليخلّص العالم، وأرسلَ كنيسته، المتمثّلة بالرسل الاثني عشر، لتحمل إلى العالم سرّ محبة الله الخلاصيّة، من أجل حياة كلّ إنسان. ونبّهها أنه “سيرسلها كالخراف بين الذئاب”. ودعاها لتتسلّح بفضائل ثلاث: الحكمة والوداعة والصبر. وكلمة المسيح تستحثّها: “الحصاد كثير، والفعلة قليلون” (لو 2:10)، وتشجّعهم كلمته الثانية: “سيكون لكم في العالم ضيق، لكن تقوّوا أنا غلبت العالم” (يو 33:16). وتعضدهم الثالثة: “انا معكم طول الأيام إلى انتهاء العالم” (متى 20:28)”.

النداء المثلّث

منطلقاً من هذه الخلفية المسيحية حدّد الراعي مواقفه وأدان إعطاء من يتولّون السلطة الأولوية للمكاسب الشخصية واتّهمهم بإفراغ خزينة الدولة وأيّد “ثورة 17 تشرين التي لن تنطفئ نارها”. وبعدما دافع عن لبنان الحضارة الذي يريدون قتله حدّد الأهداف وقال: “إنّ المرحلة التي بلغناها تحملنا إلى توجيه هذا النداء:

• نناشد فخامة رئيس الجمهورية العمل على فكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني الحرّ.

• نطلب من الدولِ الصديقةِ الإسراعَ إلى نجدة لبنان كما كانت تفعل كلما تعرّضَ لخطر.

• نتوجّه إلى منظَّمة الأمم المتّحدة للعمل على إعادةِ تثبيتِ استقلالِ لبنان ووحدتِه، وتطبيق القرارات الدولية، وإعلانِ حياده. فحيادُ لبنان هو ضمانُ وِحدته وتموضعه التاريخيّ في هذه المرحلةِ المليئةِ بالتغييراتِ الجغرافيّةِ والدستوريّة. حيادُ لبنان هو قوّته وضمانة دوره في استقرار المنطقة والدفاع عن حقوق الدول العربية وقضية السلام، وفي العلاقة السليمة بين بلدان الشرق الأوسط وأوروبا بحكم موقعه على شاطئ المتوسّط”.

وضع البطريرك إصبعه على الجرح اللبناني. بهذا الكلام يلقي على رئيس الجمهورية مسؤولية التقصير بالقيام بواجباته. ومن دون أن يسمّي يكشف عن الجهة التي تحاصر الشرعية والقرار الوطني الحر. ويعتبر أنه تجاه تقصير الرئاسة لا بدّ من العون الذي يأتي من العالم الغربي، الذي طالما كان الضامن لبقاء لبنان من أجل تطبيق القرارات الدولية التي تحفظ سيادته وتكرّس وجوده وتكفل فكّ الحصار عن هذه الشرعية حتى ولو لم ترد أن تفك الحصار عن نفسها.

قال البطريرك الراعي كلمته وهو مستمرّ في السير في هذا الطريق حتى لو تمّ اضطهاده كما تمّ اضطهاد تلاميذ المسيح وحتى لو ردّ الصدى في بعبدا “ما في حدا ولسنا معنيين”، وحتى إذا “ما مشيوا” بما طالب به “نحنا ماشيين ومكمّلين”، كما ينقل عنه بعض زواره على قاعدة ما قاله المسيح عن الخراف المرسلة بين الذئاب، ولكن على قاعدة أنه “سيكون لكم في العالم ضيق، لكن تقوّوا أنا غلبت العالم”. لأنه في النهاية لن يصح إلا الصحيح وستنتصر كلمة الحقّ وسيبقى لبنان.

نجم الهاشم-نداء الوطن