النيران الإيرانية في سوريا تتمدد ولا تخمد بين المعارضين!

معادلة “الحريق بالحريق”، معادلة جديدة تضاف إلى معادلات “التوازن” التي تحاول قوى إقليمية إرساءه مع قوى دولية. كانت إيران تعمل على ترسيخ معادلات توازن مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، عسكرياً وسياسياً. وتدعي أنها في مواجهة ندّية معهما. تلك الندّية تتحقق بمشاريع التخريب فقط. كالرد الإيراني على الحرائق التي تشهدها مناطق ومصانع إيرانية، وأراض زراعية في سوريا أو في البقاع اللبناني. والتي تحيل أسبابها إلى ما هو مفتعل بغية إعدام القدرة الإنتاجية الزراعية للبيئة الموالية لطهران لمواجهة الجوع، فتأتي العقوبات الأميركية عبر ضغوط جديدة وهي افتعال الحرائق لحرمان إيران وحلفائها من هذه المواد الزراعية.

لا يمكن للنزق الإيراني أن يرتدع في هذا المجال، طهران لا تتمكن من السكوت في مثل هذه الحالات، وهي الخبيرة بلعبة المعنويات ومعارك الوهم. لكنها غير قادرة أو جاهزة للرد على المصدر بشكل مباشر، وهي الساعية دوماً للوصول إلى تفاهم معه مهما بلغ تصعيده من تقدم وتطور واشتداد.

حرائق شرق سوريا، البقاع اللبناني، جاء الردّ عليها في الحريق المفتعل بسوق البزورية في دمشق القديمة. أحد أهم معالم الشام القديمة، نحتاً، ثقافة، حجراً، تاريخاً، بشراً، ذاكرة ووجود. قبل البزورية، كان هناك حريق الحريقة، وحريق العصرونية. و”المصادفة” أن كل هذه الأسواق والأحياء التي احترقت لدى إيران مخطط استراتيجي ووجودي أيضاً بوجوب السيطرة عليها وتغيير كيانها وجوهرها ونسفها ثقافياً ووجودياً.

في تلك الأسواق القديمة، والتي تمثل عبق التاريخ الدمشقي، والذي ينظر إليه الإيرانيون بحقد قديم، هو الحقد على بني أمية، تريد إيران أن تنتقم، وبنفس وقت الانتقام تقول لمن يوجه لها الضربات لأنها ليست مناهضة لمشروع، ها هي تتلقى الضربات ولا تردها، بل تضرب الآخرين،تحترق وتحرق الآخرين، وهي التي دخلت في نفس مشروع التهجير والتغيير السكاني والديمغرافي، في سوريا، كما كان من قبلها من غيرّ التموضع السكاني والديمغرافي في فلسطين. تنتقم إيران بإحراق الشام، ودفع أصحاب الأملاك إلى بيع ممتلكاتهم، ومن يتمنع لا بد من تهجيره أو إحراق بيته ومتجره. هنا المعركة انتقام من التاريخ، والسيطرة على الحاضرة والتغلغل في سبيل المستقبل.

بذلك قد لا تزعج الغرب، الحرق بالحرق والتهجير بالتهجير، هو استكمال لمعادلة ترسيخ منطق الثنائيات التي تستحكم بصيرورة المجتمعات،كحالة معادلة “الأسد أو نحرق البلد”، إما الأسد وإما داعش، إما ايران أو إسرائيل، والتطرف الشيعي بمواجهة التطرف السني. كل هذه الاختزالات لا تجعل إيران خارجة عن السياق الأوسع، بل تقاتل في سبيل الانغماس فيه أكثر، وربما لتوكل إليها المهمة التي أوكلت لإسرائيل في فلسطين فتنشط طهران من العراق إلى سوريا ولبنان، ولا تنجز غير ما يتقابل مع مقتضيات صفقة القرن القائمة على ركيزة التهجير والتغيير الديمغرافي.

المدى الأخطر لهذه الندّية المختلقة والمعادلات التي تفرضها، أن انعكاسها لا يقتصر على الأثر الجغرافي أو العسكري أو الاقتصادي، إنما يتجاوزه إلى أعماق المجتمع

المدى الأخطر لهذه الندّية المختلقة والمعادلات التي تفرضها، أن انعكاسها لا يقتصر على الأثر الجغرافي أو العسكري أو الاقتصادي، إنما يتجاوزه إلى أعماق المجتمع ثقافياً، سياسياً، نفسياً وأنتروبولوجياً. والذي يؤسس لمدار واسع وبعيد من فقدان أي مقوم للقدرة على الصمود والبقاء، أو ابتكار ما يمكن من خلاله مواجهة هذا الارتكاس الذي يفرض على الناس بعد الاستسلام. والاستسلام في هذا الموضع، كفيل بتقويض المجتمع الذي ينسجم مع فكرة واحدة أو بيئة واحدة مثلاً، لتصبح مشكلته مع من يشبهه وليس مع الآخر الذي يتهدد بقاءه وهدم مشروعه وآماله.

هذا جزء أساسي من مأزق الثورة السورية، ومعارضاتها، التي دخلت في معارك تصفية الحسابات بين بعضها البعض انطلاقاً من نزعة”الندّية” الإنسانية أو ندّية الهزيمة فيما بينها، فلا تعود قادرة على مواجهة المنتصر الذي يتمثل بإيران والنظام السوري وكل المؤامرة التي يتعرض لها السوريون، إنما يفضل هؤلاء أن يصطدموا ببعضهم البعض كمهزومين، يتقاذفون المسؤوليات ويتنفسون بعضاً مما كبتوا وكتموا، فينفجر بالصراعات الضيقة والزواريب، التي تحيلهم إلى خانة واحدة وهي خانة الحاجة الدائمة لمن يواسيهم بعد كل الهزائم.

بينما المطلوب منهم، إطفاء الحريق الذي بداخلهم بداية، سياسياً، اجتماعياً، ثقافياً، نفسياً، ليتمكنوا من إطفاء الحرائق الأخرى أو منع تحقيق أهدافها، سياسياً بالحد الأدنى وبالمرحلة الأولى قبل توافر ظروف التطبيق الفعلي أو العملي على الأرض. معركتهم مع أنفسهم أولاً وفي تحديهم لبناء مشروع حقيقي بكل مرتكزاته يعيد صياغة هويتهم الثورية بعيداً عن العسكرة أو الأسلمة أو التطرف والانزلاق إلى ثنائيات سلفت كالنظام بمواجهة الإسلاميين، إنما تقديم مشروع ثوري جديد برؤية فكرية وسياسية تبدأ معها الثورة مجدداً بإعادة الاعتبار للمدى الأوسع للحرية مهما اختلفت المشارب، لتحفيز الوعي المجتمعي في الداخل وفي الشتات لعدم منح النظام أو من يساندوه هذا الانتصار الذي يدعيه. المرتكز الأساسي لهذا المشروع هو مواجهة إيران ومواجهة إسرائيل ومن خلفهما وبذلك تعيد المعارضة السورية بنفسها إحياء المقاومة، في مواجهة الاحتلال وصفقة القرن أو كل ما يشبهها في المنطقة العربية.

منير الربيع