“الحياد” لاستعادة لبنان: عنوان حوار أم صراع طائفي؟


ليست هذه المرّة الأولى التي تستشعر فيها القوى السياسية والطائفية اللبنانية أخطاراً وجودية.
حزب الله نجح في نقل الشيعة سياسياً وثقافياً واجتماعياً إلى التماهي الدائم مع حال خطر وجودي ومؤامرات لا يمكن مواجهتها بغير القوة والسلاح، من جنوب لبنان إلى سوريا فالعراق واليمن.

القوى اللبنانية الأخرى كانت قد سبقته إلى استشعار هذا الخطر والصراعات المترتبة عليه، ففرغت منه مكتفية بالصراع السياسي وتوازناته المتقلبة.

المسيحيون دفعوا عنهم في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته الخطر الوجودي عليهم بالسلاح. وهم بعد الطائف راحوا يدفعونه تارة بعار استعادة الصلاحيات، وطوراً بطرح الحياد، والتلويح بالفيدراليات. وجاء أخيراً طرح البطريرك الماروني بشارة الراعي، الذي يمثل طرحاً سياسياً قابلاً لتشكيل فرصة حقيقية لاستعادة الميزات اللبنانية وحمايتها.

في مقابل الشيعة والمسيحيين، يستشعر السنّة اليوم ضعف أحوالهم في المعادلة اللبنانية. تحضر في ذاكرتهم بقوة محطّة “نكبتهم” الأساسية: 7 آيار 2008. وهم يستعيدونها اليوم لاستنهاض قوتهم وإضفاء وهج سياسي شعبي عليها. وهذا ما بدأه تيار المستقبل لدى خروج سعد الحريري من التسوية الرئاسية مع التيار العوني.

برّي وجنبلاط الوسطيان
في هذا السياق يبرز نبيه برّي موازناً مواقفه، راعياً لحاجة الجميع إلى لبنان العربي الوسطي في علاقته الجيدة مع إيران والغرب. برّي في هذا المعنى حاجة للمسيحيين والسنّة والدروز. ولدى الدروز زعامة تعرف أيضاً كيفية إدارة التوازنات بعيداً من المغامرات التي خاضها وليد جنبلاط ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. لكنه اكتشف عدم القدرة على الاستمرار في لعبة الأمم، لأن البلدان الصغيرة تذهب ضحيتها. يرتكز جنبلاط حالياً على تعزيز موقعه في بيئته وطائفته ومع الطوائف الأخرى. متحيّناً لحظة التسوية لينجح مجدداً في الحفاظ على موقعه وموقع والدور.

الحياد لانقاذ للبنان
لا يمكن تسخيف الدعوة إلى الحياد أو افتراض أن لا أساس لها. هي في الأساس رد فعل على استتباع لبنان استتباعاً كاملاً للمشروع الإيراني، الذي تمادى إلى حدّ تحكمه بالسلطات اللبنانية كلها: من السياسة الخارجية، إلى السيطرة على المؤسسات، وصولاً إلى تغيير العلاقات والتوازنات الثقافية الشعبية. وهذا أمر أساسي وليس هامشياً.

فحزب الله يمتلك وسائل القوة القادرة على فرض سلوك ونمط حياة على المجتمع الشيعي والمجتمعات الأخرى. والدليل حالات الاعتداء على أشخاص يمارسون حياتهم العادية، على غرار ما حصل مع بعض المتنزهين في كفر رمان في الجنوب.

خوف على التعليم والنظام المصرفي
تنطوي هذه المؤشرات على تحولات ثقافية، في ظل التحولات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن الانهيار المالي والاقتصادي الكبيرين الراهنين: ضرب التعليم الخاص، إجبار فئات واسعة من اللبنانيين على الذهاب إلى التعليم الرسمي. وهذا في لبنان ليس تفصيلاً، وخصوصاً عند المسيحيين، إضافة إلى فئات ناهضة وواسعة في الطوائف الأخرى، ولا سيما الشيعة.

ومؤسسات التعليم الخاص، وخصوصاً التاريخية منها، ترتبط بقوة بفكرة لبنان والكيان وتأسيسه، قبل العام 1920. لذا سارع الفرنسيون إلى تقديم المساعدات للقطاع التربوي. النظام المصرفي اللبناني أيضاً في قلب المخاوف على التحول الكبير الطارئ على الصعيد الاقتصادي، ويتجسد بضرب النظام المصرفي، والذهاب شرقاً لتحويل وجهة لبنان التجارية من الغرب إلى إيران والصين.

فكرة الحياد تعبر الطوائف
فكرة الحياد اليوم تنطوي على خوف المسيحيين الوجودي على لبنان الذي يخسرونه، بفعل خسارة مرتكزاته الثقافية والاقتصادية التي أرسوها. وهم يريدون الحفاظ عليها بمعزل عن الأغلبية العددية. والسنة والدروز وفئات من الشيعة ليسوا بعيدين من هذا الخوف على لبنان ووجودهم فيه. وهذا يفسر وجوهاً من الالتفاف الشعبي الواسع حول كلام البطريرك بشارة الراعي، والمخترق للطوائف.

فما يحصل منذ سنوات ذهب في اتجاه إفقاد لبنان نكهته الخاصة والمميزة. والتوجه هذا عملت على إرسائه مجموعات وجماعات من الطوائف، شيعة وسنة ودروز ومسيحيين. وهي ارتكزت على نظام الأسد سابقاً، وعلى حزب الله بعد العام 2005.

وكان المتضررون من هذه التحولات الدروز والموارنة والسنة. الدروز في خياراتهم السياسية يتماهون مع تركيبة الحزب التقدمي الاشتراكي المركب من أربعة أركان: حزب، زعامة تقليدية، قوة عسكرية، وقطاع أعمال وتجارة. وتسير هذه المقومات كلها وفق ما تقتضي الضرورة والمرحلة، فيتمكن الحزب الاشتراكي من الاستمرار في الحفاظ على الذات.

لكن بعض المسيحيين، يعتبرون أن لديهم القدرة على استعادة دورهم السياسي والاقتصادي والثقافي في لبنان الكبير بلا الغرب والدور العربي.

وموقف البطريرك ينطوي على حقيقة لا يمكن تجاوزها: لبنان غير قادرة على الاستمرار في سياسة المحاور. لذا لا بد من إعادة الاعتبار إلى النأي بالنفس أو الحياد، واستعادة العلاقة مع العالمين العربي والغربي.

ويلقى كلامه صدى واسعاً بين فئات واسعة من الطوائف، كالمستقبل والاشتراكي والمسيحيين، وحتى لدى نبيه برّي.

طبعاً لا يطال الحياد العلاقة بإسرائيل. والرد على البطريرك من هذا الباب ليس سوى من أعمال البروباغندا المتبعة منذ عهد الوصاية الأسدية، وذراً للرماد في العيون، بغية كم الأفواه وتشويه حقيقة الموقف السياسي لإنقاذ ما تبقى من لبنان الذي نعرفه.

عودة إلى الحوار الطائفي؟
لا بد للراعي من الاستمرار في مسيرة فك الحصار عن الشرعية. وبذلك ينجح في إحراج العهد العوني وحكومة حسان دياب، وفي ملاقاة مطالب الناس والشارع وثورة 17 تشرين. وذلك لتكريس مفهوم الدولة التي يحكمها القانون والمؤسسات. لكن بعد زيارته رئيس الجمهورية، أخرج الراعي صرخته من سياقها الداخلي ووضعها في إطارها الدولي. وهذا قد يجعل حزب الله يستخدمها في سياق طائفي.

والاصطفاف الطائفي نهايته معروفة، كما في المراحل المشابهة: الذهاب إلى حوار وطني بين المكونات المختلفة، التي تستعيد زمام المبادرة. فيستعاد لبنان من بوابة توزع الولاءات: شطر منه مع الغرب، وشطر مع الشرق، وشطر مع إيران، وشطر مع السعودية.

لكن لا بد من عدم إغفال أساس المبادرة، والخوف عليها من الصراعات المذهبية والطائفية، وتسخيفها والقضاء عليها، وعلى فرص إنتاج لبنان دولة مستقلة غير ملحقة بأي محور من المحاور، وملتزمة بالخيارات العربية ودعم الحق الفلسطيني ضد العدو الإسرائيلي.

منير الربيع-المدن