من أين يبدأ الحل في لبنان؟

ماذا يختار «حزب الله»؟ هل يقر بفشل حكومة استثمر فيها كثيراً من رأس المال السياسي والمعنوي وعبر خطابات متكررة لأمينه العام حسن نصر الله؛ أم يتمسك بحكومته ويتحمل تبعات الانهيار الاقتصادي والمالي؟
ليست هذه خيارات بسيطة؛ فالخيار الأول يعني أن «حزب الله» مُني بضربة قاسية ستعني لفترة طويلة أن ميليشيا عابرة للحدود الوطنية لن يكون بوسعها، مهما كبر دورها الأمني والعسكري، أن تتحول في لحظة ما إلى جهة قادرة على الحكم والإدارة.
أما الخيار الثاني؛ فيعني أن «حزب الله» سيصير في عيون اللبنانيين جميعاً المسؤول الأول والأخير عن انهيار لبنان؛ انهياراً لا قيام بعده للوطن الذي يُتم بعد شهرين ميلاده المائة.
كل المعطيات تشير إلى أن «حزب الله» ماضٍ في الخيار الثاني، عبر التمسك بالحكومة ومدها بأسباب العيش، ودفعها أكثر نحو خيارات تنسجم مع تصوره لما يجب أن يكونه تموضع لبنان.
في الواقع اختار «حزب الله» مواجهة أميركا في لبنان بالنيابة عن إيران وكجزء من كباشها المفتوح مع واشنطن؛ ففي تعيينات نواب حاكم البنك المركزي، أصرَّ الحزب وحلفاؤه في الحكومة على عدم التجديد لنائب الحاكم السابق محمد بعاصيري، خلافاً لتوصيات أميركية مباشرة نقلتها السفيرة الأميركية في بيروت إلى غير مسؤول أمني وسياسي. وليس خافياً أنَّ التخلص من كفاءة مالية وإدارية مثل السيد بعاصيري ومأمونة الجانب من قبل المجتمع الدولي، هو جزء من آليات المعركة؛ التي قرر المجتمع الدولي خوضها مع «حزب الله» في الحقل المالي والنقدي.
أعقب ذلك استعراض قانوني تبناه «حزب الله» بالكامل تمثل في قرار لقاضٍ لبناني يمنع الإعلام اللبناني من استصراح السفيرة الأميركية لدى لبنان أو نقل تصريحاتها؛ بحجة أنها تسيء للسيادة الوطنية.
ما لبث أن ألغي القرار وأحيل القاضي إلى التفتيش القضائي فاستقال احتجاجاً، ونال من «حزب الله» كل الدعم في موقفه.
بين هاتين اللحظتين، يدفع الحزب بحكومة حسان دياب إلى خيارات تنسجم مع خيار المواجهة المتخذ. من إشارات ذلك الترويج السياسي التعبوي لخيار التوجه شرقاً، علماً بأن الصين هي الشريك التجاري الأول للبنان. ومنها أيضاً الانتقادات التي وجهها دياب في إحدى جلسات مجلس الوزراء لمن «يخالفون الأعراف الدبلوماسية» وحديثه عن «أدوات خارجية تعمل لإدخال لبنان في صراعات المنطقة» قاصداً بذلك، بحسب التفسيرات الإعلامية السفيرة الأميركية!
ومنها أيضاً وأيضاً؛ تفعيل إرشادات حسن نصر الله بتفعيل الروابط الاقتصادية مع السوق العراقية بوصفه أحد مخارج الأزمة اللبنانية. لا ضير طبعاً في التفاعل الاقتصادي اللبناني – العراقي، لكن رفع هذا الخيار إلى الخيار الإنقاذي من حال الانهيار التي يعانيها لبنان يرتدي طابعاً دعائياً سياسياً لا أكثر ولا أقل، دعك من أن الاقتصاد العراقي نفسه يعاني ما يعانيه، بسبب تدني أسعار النفط وانهيار البنية التحتية، وتبعات الاشتباك السياسي والأمني على سلامة المناخ الاستثماري فيه.
المهم أنها كلها مؤشرات تفيد بأن «حزب الله»، وعبر أغلبية نيابية ورئيس جمهورية وحكومة، يقود لبنان إلى مواجهة مع أميركا والعرب، مما يعني أن الحصار سيتصاعد ومعه مزيد من الانهيار. فإحكام «حزب الله» قبضته على لبنان ولّد قناعة غربية وعربية تفيد بأن انهيار لبنان إن أدَّى إلى انهيار منظومة «حزب الله»، فهو ثمن يمكن تحمله، لا سيما أن تكلفة إعادة النهوض بلبنان بعد ذلك يمكن تحملها، نظراً لصغر اقتصاده وقدرته على النهوض.
بموازاة هذا الإطباق على البلاد؛ بدأت تتشكل بؤر مناهضة لخطف لبنان لصالح أجندة «حزب الله» الإيرانية، كان آخرها الموقف فائق الأهمية للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي طالب فيه رئيس الجمهورية ميشال عون بالعمل على «فك الحصار عن الشرعية والقرار الوطني الحر»، وضمان «حياد» لبنان.
ويعد كلام الراعي الأعنف ضد «حزب الله»، من دون تسميته، منذ أن خلف بطريرك الاستقلال الثاني الراحل نصر الله صفير عام 2011.
أما أهميته السياسية الاستثنائية؛ فمردها إلى أن العونية السياسية اختارت الاندماج الكامل برؤية «حزب الله» للبنان بحسبانه ائتلافاً فيدرالياً بين مذاهب يتصدره الإرشاد الشيعي للجمهورية.
في مقابلة تلفزيونية شاركت فيها مؤخراً، قال ضيف مشارك في الحوار، وهو من نجوم الحالة العونية، إنه مسيحي وليس لبنانياً. هذا الفهم للهوية يشكل نقطة الالتقاء العميقة بين العونية السياسية و«حزب الله»؛ إذ إن شيعة «حزب الله» هم شيعة أولاً قبل أن يكونوا لبنانيين، وهو ما تدل عليه هتافاتهم في المظاهرات التي يشهدها لبنان، والتي يختصرها هتاف: «شيعة شيعة». في العمق يمثل تفاهم مار مخايل عام 2006 بين الجنرال عون وحسن نصر الله التلاقي العملي بين الفريقين بصفتهما المذهبية قبل أي صفة أخرى، وهو ما يضفي عليه بعض الأكاديميين مصطلح «تحالف الأقليات».
يتوهم الضعفاء في هذا التحالف أن بوسعهم، من دون تعارض، جني مكاسب محلية مقابل تقديم تنازلات في القضايا والملفات الخارجية للأقوياء في التحالف، وهو ما يؤدي عملياً إلى تآكل يصيب كل مرتكزات الوطنية اللبنانية.
كلام البطريرك انتفاضة سياسية يمكن البناء عليها لمواجهة هذا الانهيار المتمادي، والتأسيس لحالة سياسية وطنية تقدم للبنانيين سردية إيجابية عن المستقبل، واقتراحاً سياسياً لموقع لبنان ودوره وعلاقاته.
فمشكلة لبنان سياسية قبل أي شيء، وهي مشكلة أنتجت أزمة اقتصادية ثم مالية ونقدية…
الحل في لبنان يبدأ من السياسة أولاً… يبدأ من حيث بدأ الانهيار.

نديم قطيش-الشرق الأوسط